الأربعاء، 13 يناير 2021

هكذا صرختْ سيدتي




أصواتٌ غريبة، ووجوهٌ مُتعبة، شجرٌ شاحب وأوراقٌ يابسة، كان المكان في تمام الانهيار، وكمال الخراب حيث وُجِدَت تحت كومة من الصور المنكسرة والجدران البالية سيدة في حالة إغماء، فاقت بشهقة عالية ومتتالية، تبحث وتسأل عمن معها،  فوجدت كل ما حولها فارغ منها ومن علامات الحياة! على الرغم إن المكان كان  يفوح منه عبير الأزهار ويسودهُ خُضرة الأوراق وتتساقط منها قطراتُ الندى تُضفي لتلك الشجيرات رونقًا جذابًا، جلستُ أستريح على أحد المقاعدِ وعينيّ تُحدقان بسيدةٍ  قد رمى الدهر عليها بأثقاله فاحدودب ظهرها وخط العمر لوحته عليها فبانت تلك التجاعيد مُعلنةً وصولها إلى أرذل العمر.. كانت تحتضنُ حقيبةً كما لو أنها امٌ تحتضنُ رضيعها، لم تتوقع يومًا أن تتغير مفاهيمها عن العيش بوتيرة واحدة، وعن القدر المُحتم، لم تطلع إلى سهادها المستمر لتبتر امتداد تساؤلاتها المخيفة، اختارت أن تستمر غافلة عن أسرارِ البعد، وضراوة الحاضر، كانت تتوارى عن أنظارِ الوقت، وتهرب من رهف الثواني التي تتمنى أن تُنعِش الدقائق بالوجد الصادق و الرجاء، تحلم بنفسها تتوسد موج البحر وتحتضنه، كطفلٍ فقد حِجر أمه، ككلمةٍ تحتاج الصراخ لكنها لا تستطيع فتتلاشى عند أول زفير، امتلأت الأيام بشبح الماضي الغاضب فأرادت لأدمعها النجاة والنجوى، تَعِد نفسها بحرق الصور، ووضع رمادها في زجاجة الإهمال لتتركها لبساط الريح حتى يطير بها إلى مكان لا يمكن تحديده بالخرائط ولا يمكن تخيله كالأساطير والعجائب، كانت منفصمة عن العالم، لا تبالي بشدائد المحطات، ولا تكترث لما سيقوله الناس عنها، وعن تصرفاتها، كانت لا تبالي بنميمة الجميلات عن شعرها المُشَعَّث، وكحلها السائل الذي يجعلها تبدو كساحرةٍ لا تَرحم، توالت السخافات أمام أعينها، كان جل ما تخشاه أن تفقد حقيبتها وتفقد معها كل شيء..

كانت السيدة في تلك المنطقة محط إهتمام الباحثين عن الغرائب والفضول، يحدقونها باشمئزاز وسخط، يحاولون إثارة برودها المكثف، ينتشون برؤيتها ناقصة عقل وثياب، بينما هي في عالمها تجوب كل المنطقة حافية في هجير النهار، متسرعة في سيرها المهزوم، تنظر إلى الأرض باستمرار و بدقة، تجمع الحصى في جعبةٍ من الجلد، تبحث عن بواقي الطعام لتطعم القطط عند المساء حين تلتقيهم في آخر المنطقة وتحدثهم بصوت عالٍ، كان هذا الأمر غريبًا لأهل المنطقة التعساء، فهي لا تتحدث إليهم إلا بجملة واحدة عندما تغضب من تهامزهم الواضح فتقول لهم بنبرة حادة اللفظ: (سأصرخ قريبًا)، بعدها تمضي إلى خيمتها المظلمة، تفرش الحصى الذي جمعته على فراشها، وتبدأ بهندسته كأنها تريد أن تشكل به مجسمًا، تستمر على هذا النحو لساعةٍ أو أكثر فيغلبها النعاس وتنام، كنتُ أراقبها بحذرٍ وخوف. 

اعتدت أن أراها في الحديقة العامة لتلك المنطقة وكان بالقرب من تلك الحديقة مخبز، فكانت تلك السيدة تقصد المخبز لتأخذ بعض الفحم وتستريح في الحديقة ومن ثم تكمل مسيرتها إلى خيمتها كعادتها كل يوم..أتابعُ سكناتها حتى تنام فأعود إلى  مكاني، أُدون كل التفاصيل التي عرفتها عنها ، يصبح اليوم وأنا متلهفة لمراقبة السيدة تفعل الأشياء نفسها، وتزيد نظرة الناس سوءًا وخبث كلما لمحوها، إلا أن ما كان يميز طبعها التجاهل والتغابي عن كل انصراف قد يؤرق تفاصيل يومها السيء، اكتشفت ذات يوم عندما كنت أتبعها أنها تمتلك مواهب عظيمة، اكتشفت أنه لا يوجد أحد بكل المنطقة يضاهيها ثقافةً وذكاء، رأيتها عندما اخذت الفحم وقصدت ركنٍ من أركان الحديقة، تختبئ بروية عن الوجود، حتى تصل الحائط الخلفي، فتبدأ برسم لوحات رائعة بالفحم لم ولن أرى مثيلها، جعلتني مندهشة أمام انعكاسي، كدت أهرع نحوها وأصفق تقديرًا لفنها الراقي، انتظرتها حتى فرغت من لمسة الفحم الأخيرة ورحلت مبتسمة ابتسامة  بينت جمال وجهها المجعد، وقفت أمام الحائط أتأمل لوحاتها الغامضة أحاول تفسيرها، أرى وجوه مُلثمة تحاول كبت الألم والعناء، أرى قلوب ممزقة وقمر بمنازل قبيحة، أرى جُملًا مكتوبة بلغاتٍ عديدة، لكنني لا أفقها، تألمت كثيرًا بقدر ما تحمله المعاني واللوحات من شجن بليغ، تأثرت بصمتها وبوحها عبر الرسم وادعاء الجنون والبلاهة، قررت في ذاك اليوم أن أتقرب منها وأصادقها علني أستطيع مساعدتها ولو قليلًا، انتظرت الصباح بفارغ صبري لأذهب لتلك الحديقة، حملت في جيبي بعض الحلوى التي تعدها أمي عند الصباح، انتظرتها  حتى أخذت الفحم مجددًا وتبعتها إلى مبنى أخر، كنت أشعر أنها ستكشف أمري في ذلك اليوم لأن المكان الذي تقصده شبه مهجور، حاولت أن أقلل خطواتي وأبعدها حتى لا تمسك بي، لكنها كانت أكثر ذكاءًا وحنكة، تخبأت عند زاوية بعيدة حتى جعلتني أظن أنني فقدتها، ركضت حتى تسارعت أنفاسي كالذي يطارده كلب مسعور، وكانت المفاجأة حين ظهرت أمامي ببنيتها المخيفة، تتفحصني بعينها الجاحظة وأنا في غاية ارتجافي أبتلع ريقي من هول المشهد، فقدت التفكير وانفصلت عن الواقع للحظاتٍ حتى ابتسمت هيَّ ثم ضحكت، ضحكتْ كثيرًا

حتى ضحكتُ أنا مثلها والدمع في عيني يتسابق ممزوجًا بالصدمة والحيرة، بعدها أخبرتني أنها تعلم بمراقبتي لها طوال الفترة الماضية منذ قدومها إلى الحديقة، أدهشتني ثانيةً، عندما تحدثت معي بصورة طبيعية ولبقة، كنت سعيدةً ومتوترةً من تقلب شخصيتها، طلبت مني أن أجمع معها الحصى بينما نحنُ نسير، أخبرتني أن أختار التي أراها مميزة بعيني انتابني الفضول فسألتها: ماذا نفعل بالحصى؟  أجابتني ببساطةٍ أنها تتحدث معها، سألتها: كيف؟  قالت: أن لكل شيء لغة ولكل جماد حياة لكن نحنُ من لا نستمع إلى الحقيقة، أعجبتني طريقة تفكيرها الفلسفي، كانت تجوب في مخيلتي أسئلة كثيرة لكنني خشيتُ أن أسألها وتجيبني بإجابات لا يستوعبها عقلي الصغير، وصلنا إلى خيمةٍ عند نهاية المنطقة، كنت منهمكة من صعوبة السير، جلستُ أشاهدها ترسم بإتقان واحترافية، هذه المرة رسمت فتاة بعمري وربما تشبهني إلى حدٍ كبير، كانت مبتسمةً رغم سواد الفحم، سألتها بحماسة وثقة: أهذه أنا؟ نظرت إليَّ بغضبٍ وقسوة ثم قالت: ليست أنتِ ولا تسأليني عن شيءٍ مجددًا، اعتذرت منها، فقالت: تبًا لسذاجتي التي جعلتني أصطحب طفلةً مثلكِ إلى عالمي، ابتسمتُ رغم توبيخها وأخرجتُ الحلوى التي كانت بجيبي، ناولتها نصفها، أكلتها وأخبرتني أنها لذيذة كابتسامتي الخجولة، شعرت بأنني بتُ أشغل حيزًا في حياتها وإن كان صغيرًا، مضينا إلى طريق العودة  وهي تطلب مني باستمرار أن أستمر بجمع الحصى كل بضع خطوات، حتى وصلنا بالقرب من الحديقة حيث أمرتني بلهجة مختلفة أن أبتعد عن طريقها حتى لا يلاحظها الناس تستلطف وجود أحد بجانبها وإن كانت فتاة مثلي، استجبت لأمرها بكل كِياسة، وصلت إلى بيتي الصغير مرهقةً، استلقيتُ بكامل ضعفي على سريري، أسترجع اللحظات التي قضيتها برفقة السيدة المختلفة فأجدني أبتسم كلما رأيت أناملها تنطق على الجدار بالفحم، نمت ليلتها وأنا سابحة في خيالي أفكر بالسر العظيم وراء معاناتها، أفكر بظلم الحياة وبطشها الذي نفانا إلى مكان لا يشبه أحلامنا ولا يهتم لبكائنا على كتفه البخيل، رحتُ أفكر وأمتطي سياج الحُلم العالية حتى أقبلَ الصبح، خرجتُ بهمةٍ ونشاط إلى الحديقة فلاحظت وجود تجمع من الناس وضجة لا أعلم أسبابها، وصلت حتى وجدت سيدتي الغامضة تبكي على الأرض، سألت الموجودين ماذا حدث معها؟ أخبرني أحدهم أن شرذمة من الأطفال تعرضوا لها، وسرقوا  حقيبتها غضبت كثيرًا حتى كدتُ أختنق، وجدتني أجلس قربها معتذرةً لها عن الفعل المشين، كان الجميع من بعيد ينظر اليَّ باستغراب كيف لفتاةٍ شأني أن تقترب وتتحدث مع مجنونة دون أن تخافها، أخبرتني أن ما يؤلمها ليس فعلتهم إنما صورهم التي تذكرها بعالمٍ تحطم تحت أنقاض المتفجرات  وكيف سرقت المدافع  أولادها وجعلتهم صورًا تحملهم في حقيبتها، أخذتُ بيدها واصطحبتها  إلى خيمتها الدافئة المليئة بالحصى والورق الأبيض الذي لا أعلم من أين جلبته، قدمت لها الطعام والفحم لترسم به، شكرتني ودمعها على خدها يروي صدق محبتها لي رغم جهلها بها، خرجت من عندها ونفسي منكسرة، تطلب العودة إليها ومؤانستها بشتى الوسائل حتى تهدأ وتنسى ما حدث معها خلال اليوم، خرجت وقدمي تحملني طاقة عظيمة تخبرني أنني أستطيع أن أحدث فرقًا في حياتها وأُجنبها عواقب الزمن الكئيب،  عدتُ إليها حاولت بشتى الطرق أن أتحدث معها لكنها كانت صامتة لم ترد عليَّ بحرف، حاولت أن أسحب الكلام من لسانها لكنني لم أفلح، خرجت حزينةً ومثقلةً بالأسى، لكنني مصرةً على  ان  أجد أبجديات مختلفة لأخبرها أنها تستطيع الوثوق بي وتخبرني عنها وعما حدث معها في الماضي البعيد،  

مضت سنة كاملة وأنا كل يوم أرى سيدتي تذبل وتنكمش حول دائرتها الضيقة، حتى افتقدت رؤيتها ذات يوم صباحًا، قلقت لعدم قدومها إلى الحديقة،  أخذت خطواتي في تأني تارةً وتارةً في تذبذب متسارعٍ، حتى وصلت خيمتها وجدتها مستلقية على حجارتها وأياديها سوداء بالفحم، وأوراقها البيضاء ممتلئة كلها بصور أشخاص لا أعرفهم، حاولت أن أجعلها تستيقظ، قلبتها ببطئ حتى لا أفزعها وجدت جسمها بارد وشاحب، لا يوحي لي إلا بصورة جدتي التي فارقتنا منذ خمسة أعوام، صرخت بكل قوتي وحزني، تجمع أهل المنطقة في ثوانٍ، وجدتُ يد أمي تطبطب عليَّ وتخبرني أنها فارقت الحياة، وفارقتني جلادة الأيام والصبر، بكيتُ كثيرًا  وما زلت أبكي كلما تذكرت لوحاتها التي تركتها لي، أبكي كلما قرأت قصتها التي وجدتها مكتوبة على ورقة بيضاء مثبتة بثقل الحجارة، كلما تذكرت معاناة سيدتي المختلفة، كلما لمحتُ صورَ أبنائِها  أموات تحت قيد حرب القنابل، أبكي كلما تذكرت معاناتي بعد التشرد والضنك الذي لاحقنا منذ الصغر في مخيم إيواء جمعنا بفعل الحرب، مشردون رغم وجود الأوطان والحب، مشردون رغم قلوبنا النابضة بالسلام، ها أنا أسرد قصتي وقصة الكثيرين، أحكي لكم قصة طفل بعد عمر الثلاثين، أنطق بلغةٍ غريبة ممتزجة بالحجارة والرصاص والدماء، لغة لا تعرف إلا الصمت والدموع، علّني أبحث معكم عن لغاتٍ جديدة، تحمل السلام والمحبة.


تقى عبد الله علي 

@Tu_98_qa

تقديم : أستاذة زهراء عمار، أستاذة ضيء مولود 

إعداد: غندة كريم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الاعضاء

اخلاص سعيد

المشاركات الاكثر شيوعاً