جبار نصر، ملك علی ممالك الأمنیات، أمیرٌ علی انتصارات الماضي یبلغ من العمر خمسة وثمانين نکسة بائع متجول؛ یبیع القهوة وبعض الأمل. "سوق العرب"مکانه الأبدي والأزلي وکأنهُ خلق حتی یجلس في السوق عند زاویة المحلات الکبیرة بموازاة بائعات الملابس الداخلیة لیُطرب الباعة والرُواد بصوته الذي صاغتهُ السجائر والخسائر کما تُصاغ الجوهرةُ الثمینة؛لکن مافائدتها؟جوهرةٌ قد أسقطها الدهرُ في حظیرة البقر.
لم تَزل «البحة»المألوفة في أصوات أهل الریف التي تمتطي فرسَ حنجرة جبار تُزجي آلام العجائز البائعات وتذکرهُن بما فات من لوعات
کوفیته التي حملت مجد الحضارات القدیمة وتعبَ المواقف الألیمة تمتدُ تارةً بعد اُخری لتمسح دموعه من أطراف عینیه اللتان قد اُخذ بعض نظرهما ولم یبقَ إلا قلیلاً من النظر؛ لم یبقَ إلا مایکفیه لیخلطَ البُنَ مع الهیل وأن یری طریقه
.جبار لا یمتلك بیتاً لنفسه؛ ینام في المسجد ولایرجع إلا لیلاً لیُلقي بجسده المنهك الذي أصبح أشبه بجنازةٍ منهُ بجسد رجل حي علی حافة الغرفة المُخصصة لصلاة النساء.
طلعت الشمسُ لتنذرهُ بیوم آخر من التعب والمهانة والبکاء علی «العلوانیة والمحمداوي»طلعت الشمسُ لتوقظ المقاتل القدیم الذي أصبح الآن وفي أواخر شیخوختهِ مُصارعاً یصارع الزمنَ وأیدي أزلام البلدیة الذین یمنعونه من (الترزِجْ)کما یسمیه هو.
-حجي لیش تنام اهنا؟!
سألهُ أحد الباعة الجُدُد. أجاب جبار:کنت أنام في المسجد؛ لکن الغرفة تبدلت إلی مرکز لقوات البسیج!
-سکت البائع وسکت جبار لدقائق؛ فکر البائع الجدید الذي هرب من العسکریة الإجباریة مؤخراً بسبب الاعتداءات والإهانات التي توجه الیه من الشعوب الأخری ومن مسؤولین القسم أیضاً
طارق هکذا عَرَفَ نفسهُ عندما سألهُ جبار؛أکمل أسئلته العشوائیة الموجهة إلى الی طارق:
-بعد عمك لیش ماتستمر بدراستك؟موش أحسن؟!
التفت طارق یمیناً وشمالاً لیتذکر إجابة تلیق بشخصٍ في عمر جبار ثم قال:حجي الوضع مو مناسب للدراسة؛عندي عیال أکد علیهم!
هز جبار رأسهُ متألماً ثم أخذ أبریق الشاي وسکبَ کوباً ثم التفت إلی طارق؛ الفتی الجدید في السوق الشعبیة التي قلیلًا ما یتسوق منها العجم ولهذا اسموها بسوق العرب ثم قال له:هاك بعد عمك أشرب
.أخذها طارق وهو یردف کلمات الشکر واحدة تلو الأخری ثم بدأ یرتشف منها ویقول لجبار:حجي سامحني علی السؤال بس لیش بهکذا عمر للأن تشتغل بالسوق؟جر جبار نفساً عمیقاً یسمیه«نهته» ثم قال للفتی الجدید:آه یاابني منین ابدیلك وشلون انهي کلامي!الحمدلله علی کل حال أنا شایل همك وهم امثالك اکثر من نفسي؛سنتین ثلاث وأموت لکن أنتم!مستقبل الوطن
سکتَ لثوانٍ وهو ینظر إلی الفتی الجدید لیری ردة فعله؛ حك طارق رأسه محتاراً وهو یفکر مع نفسه:هذا رجل مهم!داق علی ایده نجمة وملامحة قویة اکید له ماضيه حافل بالمغامرات! ثم أجاب َ جبار بغیر مایفکر وقال:حجي مستقبلنه مجهول هم زین من نلحك نشبع خبز! الله کریم، أنت سولفلي عن نفسك حاب ادري عنك، قال الفتی الجدید لجبار
أطرق جبار لثوانٍ ثم قال:آه...بلیالي العسر حررنه وطنة وصریج الماو اله طکة وطنة الو مو خیل خوانة وطنة ابد ماعشنة ذلة ومهضمیة!
سکتَ الفتی الجدید وأخذ یفکر! نعم کنتُ صادقاً في حدسي إنهُ من المقاتلین المخضرمین، لکن هذا مستحیل!کیف لم یزل حیاً إلی الآن؟کل اقرانه قد ماتواْ إثر الحبس أو قتلواْ في المداهمات او أعدمواْ في السجون!
یالهُ من رجل قوي! لم یستطع طارق إن یستمر في استجواب جبار لکثرة الضجیج وتداخل الأصوات ولکن وهو یرتب الملابس المفروشة علی الأرض للبیع، أخذ یفکر بالاحتمالات الواردة والممکنة علی حیاة جبار وبقائه حیاً إلی الآن، ولکن جبار بعدما قال هذا البیت الشعري للفتی أخذ یسترجع ذکریات الماضي البعید کأنه یفکر بقصة شخص آخر؛کان یحس أنهُ قد تغیر تماماً لم یُفلح في نیل الشهادة مع أصحابه الذین رحلواْ ولم یستطع أن یصل إلی حبل المشنقة الذي طالما کان یتمناه ماهذا الجحیم الذي أعیشه! یقول لنفسه وهو یصب القهوة لأحد المارّه، أهذه نهایة مُشرفة لرجلٍ مثلي؟لماذا لم تُمتني یاربي مع أصدقائي! لماذا لم اُقتل في إحدى الثورات التي شارکت بها! إن الذين ماتواْ قد ربحواْ ونحن الأحیاء یجب أن نتحمل الذل والمهانة! ثم تذکرَ نفسه عندما کان حارساً للشیخ«خزعل الکعبي»وعندما شارك في ثورة الغلمان والثورات التي تلتها؛ أسماء عظیمة تأتي علی باله کلهم قد شاركهم بمعرکة أو اثنتین! یالهُ من جحیم أرضي...!لم یزل یفکر بماضیه حتی باغت أزلام البلدیة السوق ومعهم دوریات من قوات البسیج؛ قام عویل النساء وصریخهن إلی ابواب السماء أخذ الجنود یضربون ویکسرون بالهراوات والأیدي حتی وصلوا إلیٰ العجوز الثائر وقف أحد الضباط أمامه وبدأ یتشفیٰ به ویقول له بالفارسیة:ماهذا المندیل الذي علی رأسك؟ أعطني إیاه لأمسح به رجلي وأخذ الجنود یتضاحکون من خلف الضابط! جبار لم یکن یتقن الفارسیة ولکنهُ فهم ماقاله له الضابط نظر إلیه ثُم تقرب منه بضعة سنتمترات وقال له:سأقتلك قریباً في القادسیة الثالثة! تغیر لون الضابط واشتعل غضباً ثم ضرب العجوز بوجهه وأسقط کوفیته من علی رأسه وسقط العجوز جبار معها لم تمر الثواني حتیٰ هامَ طارق علیهم کالصقر ؛ أخرج سکینهُ من جیبه ومن ثم غرسها في خاصرة الضابط الذي أسقط کوفیة جبار خمسة مرات بسرعة البرق أخرج أحد الجنود الواقفین مسدسه وصوب نحو طارق وأرداه قتیلاً یتخبط بدمائه! اخذ جبار کوفیته ولطخها بدم طارق وهو یبکي وینعیٰ لم تمر دقائق قلیلة قبل أن یحاصر السوق بأکمله بمدرعات ومئات الجنود والرشاشات وکأن جبار جیشٌ لوحده! لقد کان فرحاً لقُربه من موته وحزیناً لاستشهاد طارق الفتی الوسیم الذي کان في مقتبل العمر
لم یحاکم جبار ولکنهُ وصل الی منصة الإعدام التي کان یحلم بها وهو یقول مبتهجًا صامدًا: لو موت بعِز لو شنّاطة!
علي علاء فاخر
تقديم : أستاذة زهراء عمار، أستاذة ضيء مولود
إعداد: غندة كريم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق