كما يقال عادة
لا يذكر التاريخ إلا طوال القامة ودائمًا ما يتغافل عن قصار القامة
لكن هذا القصير صنع تاريخًا جعله يتوسط صدر التاريخ الحديث في مجاله وزمانه. في عشرينات القرن الماضي كانت الأمور صعبة جدًا على ألمانيا التي مُسحت بكرامتها الارض بعد خسارة الحرب العظمى أو الحرب العالمية الأولى والانهيار الاقتصادي ومعاهدة فريساي الشهيرة. ظهر من وسط كل هذا الحزب النازي حزب العمال القومي الاشتراكي بقيادة القصير الشهير أدولف لويس هتلر الذي تولى الحكم سنة 1933
وقد يخيل للبعض حسب ما قرئ وشاهد عن جرائم وحروب هذا النظام قد يخيل له انه تولى الحكم بعد انقلاب دموي أو جريمة كبرى أو نظام فاقد للشرعية أو شيء من القبيل لكن ما حدث كان العكس تمامًا فحزب العمال الاشتراكي ظفر بحكم المانيا عن طريق صناديق الاقتراع لا المدافع والدبابات وفوزهم اعتمد على أنهم كانوا عباقرة في فن الدعاية او ما يعرف بـ (البروباغاندا).
لنعرف النازية اولًا كما عرفت نفسها أو مثلما كان يراها الجميع
النازية: وهي حركة عنصرية قامت على تمجيد الجنس الآري الذي كان يسكن ألمانيا وهو مزيج بين شعوب هندية جرمانية وكانت مواصفاتهم انهم بيض طوال القامة شعرهم اشقر لا يعانون من أية إعاقات جسدية أو عقلية اما خلافهم من البشر فهم لا يتعدون كونهم حثالة (ليس بالحرف الواحد فـ المصادر فيها بعض من المبالغة من هذه الناحية إذا ما قورنت ببعضها وفترة الحرب).
فـ المانيا النازية كانت لديها مواصفات دقيقة جدًا يتحدد على أساسها مواطن الدرجة الاولى والمواطن غير المطابق للمواصفات ففي وقت ما تم إعدام المواليد من المعاقين والمشوهين لكي يحافظوا على نقاء العرق الآري. تخيل الآن أن من سوق لهذه الخرافات كان قصير واسود الشعر واسمر بل وحتى معاق! الدكتور ووزير الدعاية الالمانية (جوزيف غوبلز) فهو لم يكن مطابق للمواصفات التي وضعها (مارك تينك) لكنه كان عبقريًا فيما يعرف بوقتها الحاضر العلاقات العامة. ففي أي كتاب تقرأ فيه موضوع البروباغندا ستجد فيه اسم غوبلز بشكل او باخر وعليه أصبحت كلمة البروباغندا مرادفة لاسمه وسيئة السمعة. عرف كيف يوجه ويستغل وسائل الاعلام التي كانت ثورة زمنة استخدام عبقري مثل الراديو والسينما أفضل من أي أحد آخر في تسويق نظام فاشي متعصب لدية أحلام جنونية بالرغم من انها تبدو مهمة مستحيلة لكن غوبلز فعلها وسوق لهذه الافكار واقنع عشرات الملايين بها من الشعب الألماني
ففي البداية شاهد غوبلز افلام الدعاية الخاصة بالاتحاد السوفيتي أبان الثورة البلشفية ليعلق عليها ب تعليقان فقط أسس عليها منهج منظم.
الاولى ان الافلام الدعاية السوفيتية واضحة أنها افلام دعاية بحتة بمعنى اصح ان من يشاهدها لن يرى غير الدعاية للحزب الشيوعي من أجل توجيه الشعب بما يناسب الحزب الشيوعي الحاكم ليتجه غوبلز لإنتاج دعايات لا تشبه الدعايات في شيء أي أن الرسائل السياسية فيها مبطنة.
أما الثانية لاحظ غوبلز ان الناس تمل بسرعة من التوجيه فالخطأ الأكبر أن تصنع ان تصنع بين الفنية والأخرى افلام عن العظمة والمعارك الوطنية والانجازات بلا أي هدف فقط توجيه بلا معنى وعلية كان غوبلز يعطي من النسبة العظمى من الافلام للتسلية والمتعة، الراديو شغلة الشاغل الموسيقى طوال اليوم والسينما نسبة افلامها 80 % تسلية لا تحتوي على أي إعلام توجيهي فكان يشبه الإعلام التوجيهي بالدواء له جرعة ثابتة لا يجب ان تتعدى نسبتها المحددة والا ستفشل وعلى الجهة الاخرى ليس هناك شيء افضل من ان يفهم مديرك طبيعة عملك هتلر نفسه كان يعي ويفهم اهمية الدعاية وكان يملك مواهب لابأس بها في هذا المجال فهو من صمم شعار النازية (الصليب المعقوف) والذي أصبح وقتها يتوسط علم ألمانيا.
ملاحظة جانبية ”الصليب المعقوف كان من المفترض أن يكون رمز للسلام حول العالم لكن شاءت الأقدار أن يصبح ما هو عليه“. فكان هتلر يستجيب لمتطلبات غوبلز فعلى سبيل المثال بالرغم من أن أي دكتاتور يصبح مغرور لدرجة أن يصل لقناعة تامة أن أفضل من غيره في كل شيء لكن هتلر تعلم وتتلمذ على يد غوبلز في هذا المجال فقد وضع غوبلز لهتلر تدريب مكثف في الأداء المسرحي لكي يحسن خطابه.
أما المصور هاينريك هوفمان يصور كل حركة تقريبا يقوم بها هتلر لكي يعتمد المناسبة و للأمانة هوفمان كان موهوب بشدة فقد عرف كيف يقدم هتلر كزعيم ملهم من خلال الصور كل شيء درس ويقدم وفق دروس لكي تعزز صورة القائد والحزب في أذهان الشعب. الموسيقى والاغاني الوطنية والمسيرات العسكرية الضخمة على وجه الخصوص مسيرة نيورنبرغ التي يتم تخليد فيها ذكرى الذين سقطوا إبان محاولة انقلاب فاشلة عملها هتلر مع الحزب عام 1923 ألبرت شبير وزير الاشغال هو من صمم عرض الأضواء الاسطوري في مسيرات نيورنبرغ باستخدام كاشفات الطائرات التي كان من المفترض أن تراقب السماء من الطائرات المعادية استخدمها ووجها بشكل رأسي لكي تصنع مشهد الاعمدة الخرافي اعمدة من الارض للسماء تشبه بوابات الإنتقال بين الأرض والسماء في الأفلام إلى حد ما، المشهد هذا مع جموع الناس الغفيرة وصفوف الجنود زرع في أذهان الناس صورة لا يعلى عليها
شبير ايضًا هو من نظم افتتاح الأولمبياد الشهير والذي صنف كاغلى حفل افتتاح في تاريخ الأولمبياد في التاريخ لكي يوصل رسالة للعالم عن ماهية المانيا النازية ولكي يرسخ فكرة العظمة الهندسية جعل البوابات الخارجية لـ الاستاد اعمدة حجرية ضخمة جدا تشبه الى حد ما الاعمدة من ايام الامبراطورية الرومانية وفي سياق اخر عندما تقرأ مذكرات غوبلز ستدرك انه كان يعي ويفهم ان للدعاية حدود لا يجب ان تتخطاها وكان يفهم ان الدعاية المجردة لن تغيير من سلوك الناس أي شيء التي تعدت سن الشباب، بالنسبة للأطفال قد تمر مرور الكرام أما الكبار فلا فالنقطة هنا او ورقة غوبلز الرابحة انه استخدم المشاعر والمخاوف التي كانت تسيطر على الشعب إبان الحرب الأولى فعلى سبيل المثال دعايات كراهية الشيوعية. فـ الدعاية هنا لعبت على المخاوف الطبيعية التي كانت موجودة بالفعل لدى النسبة العظمى من الطبقة الوسطى الالمانية تجاه الشيوعية فالفكرة موجودة بالاصل بل وحتى كانت هناك ملصقات تصور الشيوعية على أنها نظام تخريبي في عام 1919 وعلى ذكر الملصقات استخدم غوبلز كل شيء يستفيد منه لكن الملصقات ابدع فيها ابداع منقطع النظير سواء في الانتخابات او فترة الحرب أو الحشد للتجنيد والراديو ايضًا كان وسيلة فعالة لكن وقتها كان الراديو اختراع جديد وغالي الثمن لا يمتلكه سوى الأثرياء لكن صنع غوبلز راديو رخيص لكي يستطيع الجميع اقتناء واحد على الأقل لكي تصل الدعاية لكل بيت قبل الحرب العالمية الثانية لم يقدر الحلفاء على التعامل مع آلة الدعاية هذه لدرجة أن الصحافة العالمية كانت تفضل أن تأخذ اخبارها من راديو برلين بسبب دقته ومصداقيته والمهنية التي يعمل بها ف الآلة الاعلامية كانت مستعدة ايما استعداد قبل الحرب الثانية، ولما دخلت الحرب اول عام لها أصدرت ألمانيا مجلة اسمها (signaalk) تروج لانتصارات الألمانية على كل الجبهات ونشرت بعدة لغات كثيرة وأهم ما ميز هذه المجلة انها من اوائل المطبوعات في العالم التي تنشر صور ملونة ومن ضمن الصور هذه صور نساء جميلات واحيانًا بملابس قصيرة مغرية أو شيء من هذا القبيل لكي يكسروا نمط الحرب السائد وقتها ولا نها مجلة دعاية بعثت المانيا افضل مصوريها لجبهات القتال لكي يصوروا الصور التي سيتم وضعها في المجلة والتي اصبحت في وقتها الحاضر واحدة من اكبر مصادر الصور عن تلك الحقبة.
خلال الحرب سواء مجلة signaalk وغيرها من المجلات والصحف وشرائط الاخبار ودور السينما تركز فقط على الانتصارات الالمانية في الجبهة، موسيقى حرب مشاهد ضرب ونسف جنود في معركة حامية
وحتى عندما كانت القوات تنسحب كانت شرائط الأخبار تذيع هكذا خبر على أنه انسحاب تكتيكي ومقصود من أجل تنظيم الصفوف وليس لخسارة أرض او معركة، وعلى ذكر الانسحابات التكتيكية لنتكلم قليلا عن ثعلب الصحراء الفيلد مارشال إرفين رومل صاحب أشهر سلسلة انسحابات قاب قوسين (انسحابات تكتيكية) كما روج لها، من باب العلم بالشيء الجيش الالماني كان فيه فقط 20 فيلد مارشال أي 20 مشير سلاح الجو وحده كان له 6 مارشالات غير البقية متوزعين على سلاح البحرية وقوات المشاة الخ .. عدة عشرات من الادميرالات في البحرية وعشرات مثلهم من الجنرالات في المشاة وسلاح الجو كلهم لم يحصلوا على نصف الشهرة التي حصل عليها رومل. رومل مشهور والمعروف عنه أنه قائد محنك وله معارك ضارية سواء في أوروبا في احتلال فرنسا عندما كانت قائد الفرقة السابعة مدرع او الفرقة الشبح والتي كان لها انتصارات او قاب قوسين (مغامرات جنونية و انتحارية كانت سترمي برميل في محكمة عسكرية لا يخرج منها إلا على حبل المشنقة مباشرة لو فشلت) او في معارك شمال أفريقيا عندما بعث كقائد للفيلق الافريقي لكي يساند القوات الإيطالية الذين شربوا كأس السم من ايدي البريطانيين على الحدود بين مصر وليبيا لكن وبعد كل هذا لم يكن رومل افضل قائد عسكري عرفته ألمانيا فلم يكن أفضل من الفيلد مارشال اريك فون مانشتاين اد افضل المخططين العسكريين الألمان بل الافضل بين أفضل قادة التاريخ الحديث وايضًا لم يكن أفضل من الفيلد مارشال هانز غودريان صاحب فكرة حرب البرق أبرز قائد حرب دبابات في العصر الحديث إن لم يكن عميد حرب الدبابات في العصر الحديث لم يكن أفضل من الفيلد مارشال والاميرال كارل دونيس الذي وصف واسطوله البحري ب ذئاب الأطلسي أو كما نقول بلهجتنا العامية (منيم المحيط الأطلسي وبريطانيا من المغرب) لماذا رومل كان ولا زال وربما سيبقى أشهر منهم كلهم واشهر من قادة كثر غيرهم؟ الإجابة ببساطة
البروباغندا، الدعاية
لنرجع قليلا بالزمن لوقت صعود هتلر للحكم، في ذلك الوقت استلم الحكم والجيش وفية نخبة عسكرية مستقرة من مئات السنين (الأرستقراطية العسكرية) ولهم مكانتهم وشأنهم وتقاليدهم العسكرية التي لا تتغير مهما كان مثلا هانز غودريان من عائلة توارثت العسكرية أبا عن جد ولم يكونوا عساكر فقط من حيث الرتبة فقد كانوا جميعهم من اعالي الرتب العسكرية الألمانية فون مانشتاين الآخر هو أبوه وجده وجد جده و .. إلى ان تصل لبدء التاريخ كانوا من العساكر ذوو الرتب الرفيعة في الجيش الالماني، اما هتلر فلم يكن أكثر من عريف (طبعا لا اقصد هنا اهانة أي رتبة عسكرية فقط لكي تتضح الامور) لكن شاء القدر أن يكون العريف قائد اعلى لكل الرتب سابقة الذكر. و الأرستقراطية العسكرية كلها و بالمجمل أغلبهم كانوا يحتقرون هتلر لكن يطيعوه لانهم من جيش ألمانيا و يطيعوا أوامر القيادة مهما كانت فهذا ما يمليه عليهم الواجب والعقيدة العسكرية لكن شخصيًا كانوا يحتقرونه مثلا المارشال فريديك باولوس قائد الجيش الألماني السادس الذي تعرض لحصار عنيف تلقى أوامر من هتلر أن يصمد ويقاتل حتى الرجل الاخير لم يعر الأوامر أي اهتمام بل سخر منها وسلم نفسه وجيشه للسوفييت وقال فيما يشبه السخرية (اننا جنرالات لنا تاريخنا المشرف ومعاركنا التي تشهد لنا لم سأخذ اوامري من عريف غبي ومتعجرف مثل هذا) طبعا هذه المقولة يشكك في مصداقيتها ف بالبعض اسندها لان باولوس كان يكره هتلر أما الذي كذبها قال انها مجرد كذبة اطلقها السوفييت للترويج على انه ليس هناك علاقة طيبة بين هتلر والطبقة الارستقراطية العسكرية. الفرق بين كل هؤلاء ورومل لم يكن ينتمي الأرستقراطية العسكرية التقليدية ابوه كان مدرس في احدى مدارس المانيا اما هو فقد دخل العسكرية وترقى بالرتب بتعبه الشخصي ولم يكن بأسم عائلته أي دخل فلم يكونوا عسكريين اصلا وهذا الامر الذي استغله غوبلز ايما استغلال عندما قدم غوبلز رومل على أنه فيلد مارشال وآلة الحرب الذي صعد من بين صفوف الجماهير وعامة الشعب وليس من الارستقراطية التقليدية مثله مثل هتلر زعيمة الكبير والملهم الذي تسلم الحكم وهو من صفوف الشعب ايضا كنوع من الشبهة بين رومل وقائدة عندما وصل رومل شمال افريقيا كان يحارب الفرقة البريطانية السابعة مدرع او المعروفة بـ (جرذان الصحراء) ومن يفترس هذه الجرذان بطبيعة الحال؟
الثعالب ومن لقب بالثعلب؟؟
الفيلد مارشال إرفين رومل ثعلب الصحراء، أي أنها خطة دعاية مدروسة حتى الحرف الأخير(وأنا للأمانة كنت أحد ضحايا الدعاية لصورة رومل البراقة، لكن هذا لا يعني ايضا انه ليس بكفاءته المعروفة) وايضا المعروف عن الثعلب انه ماكر وليس من السهل الامساك به وهذه كانت مناسبة لرومل بسبب انسحاباته المدروسة بدقة لولا هذه الانسحابات لوقع جيش بأكمله في قبضة البريطانيين في صحراء شمال افريقيا اسير حيث انسحب من منطقة العلمين في مصر الى تونس الى ان سحق أغلبه في النهاية كل هذه الانسحابات كانت تصور للشعب الألماني وللعالم على أنها تكتيك عسكري مدروس وهي للأمانة كانت كذلك الى حد ما لكن فشلت ايضًا وفي النهاية ربما هناك سؤال يود أحد طرحة لماذا بعد كل هذا وهذه المكانة الدعائية الجبارة لماذا خسرت ألمانيا؟! ببساطة الدعاية سلاح لكن لا يطلق الرصاص واللبيب من الاشارة يفهم.
المصادر
كتب (الفيلد مارشال رومل ومذكراته السرية، مذكرات غوبلز، الفوهرر، سيكولوجية الجماهير).
مقالات
الدعاية ودورها في الحرب النفسية.
الدعاية الاستراتيجية الحرب البديلة.
مقاطع يوتيوب
جوزيف غوبلز صانع هتلر وأستاذ الحرب المضللة.
وثائقي عالم النازية الخفي,,, الرجل المخطط لهتلر.
الكاتب: أحمد نسيم
@chc_0
تدقيق: مريم أحمد
@4mar_.a
إعداد: كوثر احمد
@4kawther_a
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق