"حياةٌ فُقِدَتْ"
طفلةٌ ترعرعتْ وكبرتْ بالدلال المُفرط، ولَمّا كبرتْ وارتكبتْ الفاحشة أحرقوها.
أنا حياة، الفتاة الوحيدة المدللة لوالديَّ منذ
أن وضعتني أمي في حضنها أدرَكتُ الحياة بين كفيّها؛ فأسمتني حياة، تربيتُ بحنانهم وحبّهم
وخوفهم المبالغ عليَّ، أحبّوا العالم لأنني قد وهبتهم حياة سعيدة، مقابل ذلك جعلوا
لي الدنيا كاللعبة بين يديّ، كبرتُ حتى النضج
ولا زلتُ تلك الطفلة التي تمارس طفولتها توًا. لم أكن أعرف للحزنِ مذاق سوى
إنّي أسمعُ عنهُ أو يُشاع إنهُ أيامٌ مريرة لا تُطاق.
أنا حياة، يَدعونني ببعض الأحيان الفتاة الحمراء؛
للونِ شعري الأحمر،
وحُبِّي لهذا اللون، كنتُ جميلة كأمي، وقوية كأبي،
ورقيقة كالطفلة التي لا تعرف ما وراء هذا العالم وما يختبئ خلف السِتار،
في أحدى الأيام عُدتُ من الجامعة مرتدية ثوبًا بسيط،
قصير مُخصّر من الأعلى ويتسع من الأسفل، يتخللهُ ألوان بلون أشعة الشمس، و كالعادةِ
يومٌ جميل وازداد جمالهُ بقطرات المطر الهادئة التي تنهمر على وجناتي،
أدور وأمرحُ بينه، وأشاهدُ السماء وجمال اصطفاف
سحابها التي تتخللها أشعة الشمس الخافتة ورائها، في شوارع ستراسبورغ، تبللّتُ أنا و
كُتبي بالكامل وما زُلت مستمرة أدور بين عالمي
الصغير إلى أن أتى ابي وعلى وجهِه بهجةً تفوق بهجتِه عن كل يوم، وقبّلني بشدة واحتضنني
لكي لا أشعر بصقيع الطقس، سألتهُ عن سبب كل
هذه البهجة إلا أنه أبى أن يقول، حتى وصلنا المنزل ورأيت والدتي تغمُرها دموع السرور!
حياة: ما سبب تلك الدموع يا أمي؟ كادَ قلبي أن يتوقف
لوهلة! فقال لي أبي
خبرٌ لا يُصدق: أمكِ حامل.
غلبَ عليّ الصمت وارتعشت قدماي وتجمدت يديّ،
بينما هم غمروني بحضنهم دون أن أنبس بكلمة، و تظاهرت
بالسعادة، ولكن داخلي تعبّأ بالصراع الجسدي والفكري،
لم أعطِ أيَّ اهتمام لهذا الأمر من قبل، لأني كنتُ
واثقة أمي لا تحمل
وأنا وحيدتُها و سبب سعادتهم؛ لكن رأيت سعادتهم
تفوق العُلا
خلال أشهر حملها، حتى أتى ولي العهد "سيمال"
وكأنَّ الحياة السابقة سقطت من عالمهم، فتولّدتْ دنيا جديدة لهم منذ ولادته،
أصبحوا لا يكترثون لأمري وليس لي أهمية كما في السابق،
كأن أصبحتُ
على هامش حياتهم، خلال أربعة سنين على مدار رحلتي
الجامعية لم أرَ ذلك الحنان والدلال، افتقدتهم بلحظة ما، وخسرت كل قواي، وأصبحت أتلاشى
من الوجود، حتى وصلت إلى نهاية مرحلتي وبدأ اصدقائي وزملائي في الجامعة يُجّهزون لحفل التخرج، أما أنا منعزلة بين عالمي المُندثر،
مع ذلك كان أجمل يوم بعدما فقدت اهتمام وحب والديَّ بذلك الوقت المرير،
انتظرتهم في حفلتي ولكن! كان يصادف الميلاد الخامس
من مولد سيمال وكانوا يحضّرون لهُ مفاجئة؛ فنسوا على الأغلب إني بانتظارهم!
أومأت برأسي و تنهدت متكتفة الأيدي على أحد المقاعد
البعيدة عن الحفل،
وبينما كان رأسي يتوسط بين يدي وأبكي، شعرتُ بأحدٍ
ما جلسَ بقُربي ورفع رأسي!
كان أحد اصدقائي و لديه مشاعر تجاهي في العام الماضي
ولكن لم اكترث لهُ؛ كوني انعزلت عن العالم،
بسبب ما كنت اتعايشه مع عائلتي، التي تركتني في أهم مراحل حياتي، ولم يهتموا لحياة
الفتاة المطيعة لأهلها بل جعلوني أشعر بأنني
كالقمامة المرمية، مسح َ دموعي المتناثرة كالغيث وقال لي: لِما أنتِ هكذا مُنكسرة
في أهم أيامِك، مَن السبب ببكاء حورية الجنة؟ تلعثم لساني وكأن تنهيدةً ملؤها الألم
أخذت مجرى الكلام؛ فضمني إلى صدره وشعرتُ بأنّي بحضن أبي لأول مرة،
بقينا على تواصلٍ مستمر ليُخفف ألمي، ولكن زادني
ألم ! باتت المحادثات واللقاءات تكثرُ بيننا حتى شعرت بشيءٍ ما تجاههُ، كان الشخصُ
الوحيد المهتم لأمري من بين عائلتي وأصدقائي،
وفي أحد الأيام طلب مني أن نلتقي في بيتِه، وأنا
كالطفلة قبلتُ ولا أعرف ما هي العواقب التي تنتظرني في هكذا عالم، يسود فيه الظلام
الدامس الذي قد خَيّم على مخيلتي، بعد ما كنتُ أعتقد أنّ الدنيا صغيرة، لا يوجد فيها
حزن، ولا أدرك الحب الصادق من بين الكاذب، تِهتُ بدنيا كبيرة بمفردي دون سند،
بينما كنتُ ذاهبه إليه فدخلت الى منزلِه في تلك
الليلة المرعبة فرأيتهُ في حالةٍ لم أرَها من قبل، وبجوارهِ كؤوس لأول مرةٍ أشاهدها،
فأبصرت أنهُ يثمل، و رجلٌ دنيء، مقرف، مخادع، بدأ يتقرب مني؛ فأبعدته بصعوبة و أوشكت
على الهروب، ولكن لم أستطع وفعل كل أنواع العنف ليحصل على مراده، تلاشت قوتي فليس لدي
القدرة على مقاومتِه، حتى فقدتُ أعز ما عندي،
فما فائدة قوتي التي ورثتها من أبي الذي تركني أُخدَع
بهؤلاء المقرفين،
هل تكفي يا ترى؟ هل يوجد أهمية سِواء لقوتي أو ضعفي؟
قد خُيّبت آمالي وتعرضت لأبشع الإهانات والدناءة،
خرجتُ و أنا هزيلة و داخلي يحترق وعيوني غارقة بدموعٍ
مكفهرة،
أصبحت أرجلي لا تحملني فجثوتُ على ركابي وسط شارع
يخلو من الناس والمارّة كأن الأرض ابتلعتهم
ولم يعد لهم وجود،
ليلٌ ساكن، هادئ يعصفُ بالألم وصوت بكائي وقلة حيلتي،
أشاهد بغشاوة السماء المرصعة
بالنجوم ويُضيئها القمر كأنها متزينة بهم،
لو ترى ماذا أحمل بجوفي المُتهدم من الانهيار والخذلان
لأنزلت الغيث لتطفئ الحرقة الموقدة بقلب فتاة سَئمت هذا العالم الغريب الدنيء الذي
سلطّ قوتِه على طفلةٍ لا تعي بشيء، منذ أن
خذلوها أهلها ولم يكتفوا بخذلانها بل أنهم أزجوها في بقاع جهنم، وأحرقوها بزواجٍ تقليدي
لشخصٍ يكبرُ منها خمسة عشرَ عام ليغطوا عارها.
أيلامُ المرء إن صدّق بشخصٍ قدم له الحب ويد العون والاهتمام بعدما فقدهُ من أبيهِ وأمه؟
في زماننا ملامون على كُلِّ شيء نُبصِر بهِ
لذلك :
"لا تستمر عجلة الزمن معك إلى الآخر"
فلا تأتمن
لهذ
سارة سعدون الخفاجي
@sara_alkhafaji2
تقديم أستاذة زهراء عمار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق