الخميس، 28 يناير 2021

هاجر فالح

 


عجزت الأقلام عن وصف ذلك العجوز، صاحب صحن الفاكهة و الطاولة الخشبية، في بيت الطين؛ عاش العجوز مغترب بتلك المدينة، يستنزف وقته بين طيات الكتب و حكايات الماضي، رافض أن يترك هذه المدينة، وكأن شيء ما فيها أو جزء من قلبه لا يريد تركه فيها، لا أحد استطاع إقناعه بالعودة للوطن ولا  أحد استطاع معرفة سبب تمسكه بهذا المكان. مرت سنين وهو وحيد، تطورت المدينة وتلاشت بيوت الطين، إلا بيته، كان لديه ولد وحيد في البلاد بين حينٍ وآخر يزوره، ويحاول أخذه، لكنه كالعادة رافضاً. أخذت السنين ترسم التجاعيد في ابتسامته وتحت تلك العيون الزرقاء كتبت خطوط الحزن قصتها وبدأ المرض يتمكن من جسده الضعيف.

طاولته الخشبية الأرضية ذات الشكل الأثري بمنتصف الدار، وفوقها صحن فاكهة كبير مملوء بأنواع الفواكه، وفي إحدى الزوايا وسادة ومفرش، والزاوية الأخرى كانت للصلاة؛ هكذا كان بيته، لكن الغريب كل يوم يملئ ذلك الصحن بالفاكهة ليتركه على الطاولة ويخرج من البيت تارك الباب مفتوح، ثم يعود ليراه فارغاً... ما قصة هذا الصحن؟! لماذا يترك الباب مفتوح؟! أين يذهب في الصباح الباكر كل يوم؟

ينهي مشواره كل يوم وبعد الظهيرة يجمع الأطفال ليروي تلك الحكايات الجميلة وذات الحكم لهم والبسمة تملأ محياه.

 

كان هناك شاب طيب القلب بشوش الوجه بائع الخضار في الحي يستمع له من بعيد دائماً، فقال له يا عم لقد بان عليك التعب ورسمت السنين على محياك الألم، ورسم المرض حفرًا تحت عينيك ألا يكفي يا عم، أراك بشوش دائمًا لكن المرض بدا يشق طريقه على خديّك، كيف تستطيع أن تبتسم دائمًا كيف لك أن تعيش وحيدًا، قل لي ما هذه المشاق التي حلت بك، ولماذا كل يوم تشتري الفاكهة مني، وما قصة ذلك التل الذي تقضي صباحك فيه كل يوم رغم الوهن في جسدك؛ نظر العجوز له مبتسمًا والدموع تتأرجح بين مقلتيه و استند على الحائط بجسده البالي المرهق، ماسكًا قلبه بقبضة يده كأنه أراد التفوه بشيء، لكن الصمت استولى على أحبال صوته، فقال لا عليك يا بني، الحياة تسري بسرعة انتبه لها، ومشى خطوة تسنده وخطوة تألمه وعكاز ماسك بجسده البالي، ولم يحصل الشاب على أي إجابة.

 

ومثل ما قال العجوز الحياة تسري كأنها في سباق جاري بلا انقطاع، أكل المرض جسده  وتمكن منه نهائيًا وبدت هيئة جسده متعبة وظهره منحني تمامًا ففقد بصره، وفي ذلك اليوم لم يخرج الرجل من بيته ولم يذهب لبائع الخضار، افتقده الشاب فذهب للمكان الذي يروي به الحكايات فرأى الأطفال مجتمعين من دونه، سألهم فقالوا له العم لم يأتِ اليوم وهم بحالة حزينة غير مدركين ماذا حصل.

ذهب الشاب لبيت العجوز رأى العم مستلقي على ظهرة، قال له يا عم ما حل بك اليوم قد افتقدناك جميعاً...

رد عليه العجوز: يا بني قد أكل المرض صحتي ودارت الأيام وانتهت مسيرتي، قد شاء الرب أن أعيش وحيدًا هنا، لكن ادفنوني بذلك التل، سأله: يا عم اخبرني ماذا هناك والحزن يعتلي أنفاسه؛ رد العجوز والكلمات تخرج بوهن وحزن ثم قال، ما كان إصراري على العيش هنا إلا الذكريات، فما كان لي إلا الطاعة لقلبي وحنيني إلى زوجتي التي سقطت من ذلك التل العالي على صخرة لعينة لم تنظر لفؤادي وماذا سيحل به عندما قررت أخذ المرأة التي لم أعشق سواها، تلك الصخرة كانت عديمة الرحمة، و ما الفاكهة وباب بيتي المفتوح إلا لأولاد الجارة الأرملة، اعتادوا كل يوم أن يروا الباب مفتوح وصحن الفاكهة من رزقهم، فكان واجبي أن أطعمهم دون أن يحل الخجل بين عيونهم، يا بني اليوم قد بدا لي ان أجلي قريب والمرض أخذ مدركه مني والحياة فعلت ما فعلت بي، فهذا النصيب وهذا القدر قد بان اليوم أن لقائي بزوجتي قريب، فقد رأيتها البارحة وقالت سأشم ريحك غدًا؛ فبكى الشاب ماذا أفعل ياعم والله لقد فت الفؤاد نفسه بما سمع والروح اشهقت نفس الضيق بما رأت، قال العم لا عليك بشيء إلا تلك الصدقة لروحي، تساءل الشاب! ماهي تلك الصدقة؟ رد عليه.....صحن الفاكهة.....

وصعدت روحه إلى السماء محلقة يملؤها شوقًا كبير وراحة لما عاشته في الحياة.

 

تاركًا خلفه الحكم للأطفال وصحن الفاكهة لأيتام الجارة، وذكرى ذاك البيت ذات الباب المفتوح، وابتسامه تقرأ روحًا غريبة وذكرى كأنها تحمل حقائب غريب.

 

هاجر فالح

@h.a.jr

تقديم أستاذة زهراء عمار ، أستاذة ضيء مولود 

إعداد: غندة كريم 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الاعضاء

اخلاص سعيد

المشاركات الاكثر شيوعاً